صراع إسرائيل وإيران وأفلام الفتوة
أيامٌ قلائل، هي عمر صمتُ الصواريخ، وسكون غُبار
الحرب الإسرائيلية على إيران
ـ تلك الحرب هي الأولى في تاريخ الشرق أوسط الحديث منذ تبلورت الفكرة الصهيونية في
شكل دولة على أرض فلسطين العربية المحتلة.
ومنذ نشأتها، تسعى إسرائيل، بمُعاونة ودعم الغرب الإمبريالي إلى
توسُّد عرش القيادة في الشرق الأوسط. ولكن، مع الزلزال الذي اهتزّ له العُمق الإسرائيلي،
في السابع من أكتوبر 2023م، فقد أعقبته حرب إبادةٍ مستمرة إلى لحظة كتابة هذه الكلمات ـ حربٌ
جمعت بين وحشيّة الحروب الصليبية مع وحشيّة الحروب المغولية اللتان دمّرتا الشرق
الأوسط على مدى القرنين الثاني عشر والثالث عشر.
ولمّا كانت إيران هي الدولة الشرق أوسطية
الوحيدة الشريك والظهير للمقاومة الفلسطينية؛ فقد أتى القرار الإسرامريكي بالحرب
على إيران في 13 يونيو 2025م، والتي دارت رحاها، وتبادل الطرفان ضرباتٍ موجعة في
العمقين.
ومثلما حطّمت حرب أكتوبر 1973م نظرية الأمن الإسرائيلي القائمة على الاحتماء بالساتر الترابي
المنيع، المسمى خطّ بارليف، فإنّ طوفان الأقصى أثبتت وهم إمكانية تصفية القضية
الفلسطينية، كما حطّمت الحرب الإسرائيلية الإيرانية وهمْ أنّ إسرائيل قلعة عصيّة
على الاختراق.
ومع اشتعال
فتيل الحرب، فقد انشطر الوعي الجمعي العربي إلى عدّة أحزاب، أبرزها الفريق الذي
تبنّى موقف مُساندة ودعم إيران مُعتمدين مبدأ "عدوّ عدوّي صديقي" ـ حتى
وإن اختلفوا مع بعض سياسات إيران في المنطقة العربية. ورغم أنّ هذا الموقف الداعم،
أو غيره من المواقف المُغايرة، لن تحرّك ساكنًا في مجرى الأحداث، إلا أنّ ردود
الفعل الصوتية الكتابية هذه قد دفعتني إلى البحث والتنقيب في المعنى، وعن البوصلة،
وعن الحلم، ليس لأجل التفسير، بل مشتبكًا مع أسئلتها الكبرى؛ لا باكٍ على أطلال الحرية، بل حارسًا
للمعنى ومهندسًا لوعيٍ جديد، وعيٌ يُعيد للأمة ثقتها بذاتها، لا كحلمٍ غائم، بل
كمشروعٍ صلب.
إنّ ردود أفعال العقل الجمعي العربي دفعتني
إلى الزاوية التي طالما عشقتها ـ السينما؛ لأجد فيها الصورة المطابقة، إلى حدٍّ
كبير، لردود الفعل تلك ـ إن استطعنا إعادة قراءتها من جديد.
قدّمت السينما المصرية عدّة أفلام عن
"الفتوة" ـ الذي كان بمثابة حاكم الحيّ أو المنطقة، والمُؤتمَر بأمره
حتى في ظل وجود جهاز الشرطة. وإذا كانت صورة "الفتوة" في السينما
المصرية قد تأرجحت بين الفتوة العادل نصير الضعفاء (كما في بدايات فيلم الحرافيش،
وبدايات فيلم سعد اليتيم، ونهاية فيلم التوت والنبوت)، وبين الفتوة الظالم الذي لا
يهتّم إلا بمكاسبه والطبقة المحيطة به (مثل فتوات بولاق، الحرافيش، التوت والنبوت،
والمطارد)، وبين ذلك "البلطجي" الذي يفرض "الإتاوة" على
بائعات الهوى (فيلم خمسة باب)، فإنّ صورة الكيان الصهيوني لا تختلف كثيرًا عن ذلك؛
إذ الكيان الذي يدّعي التقدم والرقيّ، قد تجاوزت جرائمه جرائم كل الفتوات من قتل،
ومن سرقة ونهب، ومن تدمير للحياة بشتى صورها وأشكالها.
وإذا كان صراع الفتوات لأجل المكانة والسيطرة
والنفوذ، كما في أفلام فتوات بولاق والحرافيش، فإن الصراع الإسرائيلي الإيراني لا
يخرج عن هذا الإطار النفعي، حتى وإن راح ضحيته مئات الآلاف من العرب المسلمين.
ومع عجز كافة القوانين الدولية أمام غطرسة
الكيان ونفوذ داعميه ـ الذين ضربوا عرض الحائط كافة القيم والنُّظم، فقد جسدت السينما
عينَ الفكرة؛ إذ عجزت الشرطة عن فرض الأمن والانضباط في ظل وجود الفتوات وأعوانهم.
وهو ما نلاحظه مثلًا في فيلم "المطارد"، وفيلم "فتوات بولاق"؛
حيث انتشرت جرائم القتل وغيرها.
وأمام سعي أصحاب المصالح والتدخُّل بشكل غير
مباشر إنقاذًا لمصالحهم والتأثير على الفتوة سليمان الناجي في
"الحرافيش"، وإبعاده عن الحرافيش ـ الذين هم بمثابة الدرع الآمن له، فلا
يمكن لعاقل أن يُنكر تدخل أصحاب المصالح في الحرب الإسرائيلية الإيرانية لأجل مصالحهم
الخاصة.
لقد بدأ انهيار الفتوة الظالم من الداخل، من
بيته نفسه، كما جسد ذلك فيلم "الحرافيش"، ولكن الصراع والانهيار الداخلي غير كافٍ للقضاء على
الظلم والتخلُّص من الظالمين؛ بل لا بدّ من الثورة. ثورة آمن فيها "الحرافيش"،
في أفلام مثل "المطارد" و"التوت والنبوت" و"الحرافيش"،
بعدالة قضيتهم، وبحقّهم المشروع في حياةٍ كريمةٍ، أكثر من ذلك إذ آمنوا بقوتهم واتحدوا
على قلب رجل واحد، فما كان منهم إلا أنْ أسقطوا الظالم، واستعادوا حياتهم وكرامتهم
المسلوبة.
وإذا كان بيت
الناجي في "الحرافيش" قد تعرّض لزلزالٍ كبيرٍ بسبب الفتنة التي خلقتها
"رضوانة" زوجة "بكر الناجي"، وأمام غضب "الحرافيش"
وثورتهم على الظلم، فهل سيغضب حرافيش العرب، وكلُّنا حرافيش، مُطالبين بحقوقهم
المشروعة؟!، أم سيبقون مثل "الدراويش" عاجزين عن الدفاع عن حقوقهم، بل
وعن حيواتهم كما شاهدنا في فيلم "سعد اليتيم"؟!، ومتى سنُكرّر مع سليمان
الناجي قوله "الغايب رجع، والحاضر غاب، ولا موجود إلا خالق الوجود"؟!
متى يعود الغائب الحامل لبذور المعنى؟، والذي يُصرّ على السباحة عكس التيار؟،
متى يعود مَن يرى في كل انحدارٍ معدنًا نقيًا يُكتشف، وفي كل ليلٍ أضواءً صغيرة
تنتظر من يرعاها؟.
إنّ ما تحتاجه الأمّة، اليوم، ليس حائط مبكًى مُمتدًا، بل بيانًا للخروج من اليأس، وإعلانًا للشراكة في الزمن القادم… لا بوصفه يوتوبيا مستحيلة، بل واجبًا تأخّر كثيرًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: محمد عرفات حجازي