فنّية التعليم: نحو مُعلِّم يبتغي دائِمًا التعلٌّم ـ شهرزاد حمدي

 

 فنّية التعليم: نحو مُعلِّم يبتغي دائِمًا التعلٌّم

اتحاد الفلاسفة العرب

شهرزاد حمدي[*]

1_ مفهوم التكوين  

تقودنا الضرورة المنهجية إلى مُساءلة مُصطلح التكوين مفهوميًا؛ قصد التعرّف على معناه وبيان أهميته. إذ يمكن تعريف التكوين كمرحلة مهمة في حياة الأستاذ المعرفية، على أنه: العلم بالتشريع المدرسي وقوانينه التي تحكم السير العام للمؤسسة التربوية والتعليمية. وعلى سبيل الوضوح والدقة، فهو: عملية إرفاق الأساتذة بدورة تكوينية، الغرض منها تعزيز معارفهم بإضافات جديدة، وتحسين قدراتهم، وفتح حلقات لتبادل ومشاركة الخبرات، كما تهدف إلى الارتقاء وتطوير الجانب المعرفي، مع تحسين الأداء البيداغوجي.

2_ كيف نضرّ بعَمَلية التكوين؟

ولأن ضروب الاعتقاد الخاطئ موجودة في مثل هكذا مقامات، ممّا يستدعي الضبط والفهم الحصيف؛ يندرج التكوين تحت إطار الخطأ، من الفئة التي يطالها ويشملها، أين تعتقد أن الدورة التكوينية محدودة ومؤقتة، لا تتجاوز عتبة المحطة الأولى من الحياة المهنية. بيد أن هذا التصوّر من زِلل العقل، وهو يضرّ بعملية التكوين ذاتها. وتوضيح ذلك في النقاط التالية:

_يجعل الاعتقاد الخاطئ بقصر مدة التكوين، الأساتذة يتوقّفون عن زيادة معارفهم وتطويرها، وامتناعهم عن ذلك ظنا منهم أنهم أصبحوا أكفاء، بالتالي، يتوقّف التكوين عن نشاطه وخدماته التي يلقي بها على المتكوّنين.

_تحتاج عملية التكوين إلى أستاذ يحمل عقلًا مستعدًا للتكوّن بشكل دائم، لأن مستجدات بيئة التعليم في نشاط مستمر، مما يفضي بانبثاق جملة من العقبات تستلزم أستاذًا على مرافقة مستمرة لمخرجات التكوين. ولكن، إن يحصل الاعتقاد بعكس هذا الطرح معناه لا تكوين ناجح؛ وذلك لأنه وقع تحت عملية الحذف من برامج أجندة المهام والاهتمام الخاصة بالأستاذ. ثم إن هذا الخطأ يجعل من الأستاذ نفسه غير ناجح؛ لأنه لا يملك الآليات والاستراتيجيات التي تساعده على مواجهة تحدّيات التعليم.

_حدوث نكوص لعملية التكوين، إذ تتعارض النتائج والمقدمات التي يهدف إلى تحقيقها. فالمبدأ تمحور حول المراقبة المستمرة للأستاذ، غير أن النتيجة خرجت عن سياقه بأن جعلت من هذا المبدأ مرتبط بإطار زمني مؤطّر بأجل مُسمّى.

_ولأن عملية التكوين تتشاركها عديد الذوات من مجموعة أساتذة، وكذا مفتشي مواد؛ فإن توقّفها معناه ضرر الجميع، فلا المفتش قام بمهامه، ولا الأستاذ استفاد، ولا التكوين نفسه أخذ نصيبه في التفعيل والتطبيق.

_بما أن الدورة التكوينية على ارتباط مباشر بمسألة الكفاءة، فإن فساد التكوين سينتج عنه فساد الكفاءة، من جهة المفتش؛ لأنه يتكوّن وهو يكوّن، والأستاذ الذي يرهن حظوظه ويضعها على المحك.

_يلحق الفساد بعملية التكوين ذاتها ما إن يتكلّس الاعتقاد المغلوط حول ضيق أفقه الزمني؛ لأن الأستاذ الذي يكون اليوم خاضعًا للتكوين، فإنه في الغد سيكون هو المكوّن، بالتالي، فشل عملية التكوين؛ لأنها مرهونة ببداية قويمة واستمرارية كذلك.

3_ تعليمات للحُصول على شخصية المُعلّم الناجح

في سياق الدورة التكوينية التي يندرج تحت إطارها الأساتذة، فإنه يوجد قرار وزاري ينظّم العملية ويحدّد المهام المنوطة بالأستاذ في التعليم الأساسي وكذا الثانوي، ويتمثّل هذا القرار في القرار الوزاري رقم 153 المؤرخ في 26 فيفري 1991م، وتتخذ هذه المهام طبيعتان، وهما:

_مهام من طبيعة بيداغوجية: من تقديم الدرس، والمشاركة في مجالس التعليم.

_مهام من طبيعة تربوية: أن يكون الأستاذ مسؤولاً عن جميع الجوانب التي تخصّ المتعلّم.

لعلّ أصعب المهن وأشرفها في نفس الوقت، هي مهنة التعليم؛ وذلك راجع لأنها على علاقة مباشرة بالمستقبل، فهي التي تجتهد في تكوين جيل يؤمن بقيم المعرفة، والحقيقة، والفضيلة، ويعتقد في العلم القدرة على النهوض والتحضّر. وقصد تحقيق هذا المطلب؛ يتكاثف الجهد، مما يضطر بالمعلّم إلى التحكّم في جميع عناصر العملية التعليمية، وأبرزها بيئة التعليم التي تخلق صعوبة في تسييرها، وهنا تظهر قدرات المعلّم في التعامل والتعاطي مع هذه العقبة، فيلجأ إلى أسلوب استراتيجي يتمثّل في أسلوب تقدير الذات، والمقصود بهذا النهج: أن يهتم المعلّم بذاته ويقدّرها؛ حتى يلقى التقدير من العنصر المقابل، أي المتعلّم. فالذات محور أساسي في عملية التعليم، وكأنها كتاب مفتوح يقرأ المتعلّم من خلال صفحاته شخصية معلّمه، وعلى أساس كلماتها يتصرّف إما بالتقدير والاحترام؛ أو التمرّد والاستهجان والاحتقار، كمَا ويعمل على تقدير ذوات المتعلّمين، فالعملية التقديرية مركبة، تشمل ذاته، وكذا الذوات المقابلة.  لهذا الأمر، يتّبع المعلم أسلوب تقدير الذات وإعطائها قدرًا كافيًا من العُني، وذلك من خلال:

_الشخصية، بحيث يجب أن يكون مُتعاونًا ومُساعدًا، لا يبخل بالمعلومة من الناحية المعرفية، ولا بالنصيحة والمساندة والتفهّم من الناحية النفسية والاجتماعية.

_أن يقبل الحوار والنقاش، وألا يكون متعصّبًا نرجسيًا يرى في ذاته الصواب وفقط؛ لأن هذا الأمر في حد ذاته احتقار للذات، فالأصوب أن نجعلها تنفتح وتشارك الآخرين آرائهم، حتى تبيّن لهم أن حاملها يحترمها، لذلك يمنحها فرصة التطوير من خلال الغير.

_التحلّي بالمسؤولية وتقديرها، فلا يوكل مهامه إلى المتعلّم قصد القيام بها، مثلا: تدوين التاريخ والنشاط على دفتر النصوص؛ لأن هذا السلوك يجعل من المتعلّم يرى في ذات مُعلّمه مُتقاعسة، مُتماطلة ولا تقدّر قيمة العمل.

_الهيئة الخارجية والمظهر العام، بحيث يهتم المعلّم بهندامه، فلا يكون متّسخا ولا مقطّعا أو غير محتشم.

_يحرص المعلّم، وبشكل مستمر، على تبيان أهمية الذات وضرورة تطويرها وصقلها من جميع الجوانب: معرفيًا، وأخلاقيًا، وسيكولوجيًا، واجتماعيًا، فهي وحدة متكاملة تعبّر عن روح الشخص. كذلك يسعى إلى التدليل على قيمة الاعتماد على النفس وقدرات الذات وتحيينها، ورفض أي أشكال القبول المذلّ والخضوع والخنوع لذات أخرى.

_أن يبادر المعلّم باحترام ذوات المتعلّمين بعدم إهانتهم أو التقليل من شأنهم، كما يحرص على تقدير قدراتها، فلا يستهزئ بإجابتهم حتى وإن جانبت الصواب؛ لأن العملية عكسية ومرتدة، إذ ستلقى ذاته نفس المصير.

_إشراك التلاميذ في العملية التربوية؛ لأن هذا الإجراء سيمنح ثقة لذواتهم، ويجعلهم في تواصل وانتباه أكثر مع المعلّم، فلا ينصرفون إلى الفوضى أو التشويش، أو أمور تضرّ بالصالح المعرفي.

_محاولة تأطير العلاقة التي تجمع بين ذاته وذوات المتعلّمين، أين ينتهي النقاش في حدود وفواصل المعرفة، وإن تعدّى ذلك فلا ضرر من مشاركتهم همومهم، ولكن لا يجب أن يطال الأمور الشخصية والعلاقات العاطفية، ومسائل حساسة تخصّ الحياة الخاصة.

_حفظ الأسرار وكتمان الحديث الذي يدور بينه وبين المتعلّم حتى ينال تقديره، وهكذا ينال تقدير الجميع.

من أجل السير الحسن للنشاط التعليمي، يحضّر المعلّم مذكرة تعليمية يستند عليها ولا يعود إليها في كل مرة، بل من حين لآخر حتى يمنهج أسئلته وشروحاته وتعليقاته، وتحتوي هذه المذكرة على ثلاث مراحل أساسية، أبرزها مرحلة الانطلاق. 

4_ شُروط فعّالية وضعية الانطلاق في الدرس الفلسفي

شهد حقل التربية والتعليم تطوّرًا على مستوى المنهج والمضمون، وبالأخصّ الطريقة، أين عكف فريق من التربويون وكذا الأساتذة على المناداة بضرورة تطبيق ما يسمّى في أدبيات الفكر التعليمي المعاصر بالمقاربة بالكفاءات، كطريقة رأى فيها هذا التيار الأداة المثلى لخلق تلميذ كفئ قادر على حلّ المشكلات وفي جميع المجالات، مع التنويه بوجود تيار معارض لهذه الطريقة. غير ذلك فما يهمّنا هو كيفية جعل وضعية الانطلاق كوضعية محورية تتناسب وروح فلسفة المقاربة بالكفاءات، ويتحقّق هذا الغرض بشرط حصول النقاط التالية ووقوعها تحت تأثير الفعل، وهي:

_أن تكون محفّزة وتشويقية، مثال: قصة، حادثة، مثال واقعي، حدث معيش...

_ألا تلقي بمعناها بشكل مباشر، بل تتدرّج وفق خطوات، والمتعلّم هو من يقبض على المعنى.

_طرح أسئلة استفزازية وباعثة على القلق والدهشة، مما يجعل المتعلّم يستثير قدراته ويحاول الفهم، ومن ثم الإجابة.

_إذا رفع التلاميذ أصابعهم قصد الإجابة عن السؤال، لا نختار التلميذ النجيب المتوقّع أنه يعرف الجواب، لأنه إذا كانت إجابته صحيحة فسينهي وضعية الانطلاق وفي وقت مبكّر.

_الامتناع عن كتابة عنوان الدرس مباشرة على السبورة.

_فتح المجال للتناوب على طرح الأسئلة، أي ترك الفرصة للمتعلّم حتى يسأل فيجيب زميله مثلا، وهكذا نضمن حصول حلقة حوار من جهة، ومن جهة ثانية ننطلق في بناء الدرس.

_توظيف النصوص في مرحلة وضعية الانطلاق، شريطة أن يكون النص المختار قصيرًا، ولغته واضحة وبسيطة.

_تشجيع العمل الجماعي، كالدعوة إلى التعاون في الإجابة عن السؤال المطروح، وتبادل الآراء في الكشف عن موضوع الدرس.

_اجتناب طرح الأسئلة الغامضة والمعقّدة؛ حتى يحصل الفهم، ونضمن عدم تشوّش الفكر.

_التنويع في آليات استدراج فهم المتعلّمين لمعرفة الموضوع، من السؤال، إلى المثال إلى القصة...، حتى لا يمل المتعلّم، وكذا حتى لا نقف عند آلية واحدة لم تحقّق المطلوب وتضييع الوقت.

_إذا كان الموضوع على علاقة بالموضوع السابق، نتحدث عما سبق بإيجاز؛ حتى نضع المتعلّم في سياق المحور العام.

_استخدام الألفاظ التقييمية التالية: نعم قد اقتربت من الفكرة، حاول أكثر تكاد تصل (...)؛ حتى يتشجّع المتعلّم أكثر، ويندفع بحماسة نحو الإجابة الصحيحة.

 

 



[*]  ) باحثة دكتوراه، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2 (الجزائر)

أحدث أقدم