السافل المحبوب ـ محمد عرفات حجازي

 

السّافل المحبوب

السافل المحبوب

محمد عرفات حجازي([*])

   "رغم كلامه السافل، أحيانًا، إلا أننا نحبه".. هكذا تفاعل الكثيرون مع أحاديث بعض الشخصيات الشهيرة، وهو تفاعل قد يُثير الاستغراب، بل ويرى فيه البعض من التّناقض والإنكار.

   إنّ الدّلالات الّلغوية تؤكّد على أنّ "السّافل" هو نقيض "العالي"، وهو "النّذل"، وهو "الغوغائيّ"، وهو "السّاقط"، وهو أخيرًا "الضّال" الذي ينحرف عن بداهات العقل، أو ما اعتاد عليه مجتمع من المجتمعات. ويتكفّل المجتمع بإطلاق هذا "اللّقب" على شخصٍ ما سواء أتى الفعل مرةً واحدةً أو عديد المرات حتى باتت طبعًا له مُتأصِّلًا..

   لكن، إذا كان "السّافل" موصومًا، فكيف لنا أن نُحبّه؟! ربّما علينا التّنقيب في الكثير من مظاهر حياتنا لتحديد المواقف التي تجذبنا إليها، ثم الولوج إلى مصنع الوعي، الذي بداخلنا، لمعرفة مدى إمكانية محبّة/ كراهية هاته الشخصية.

   لو رجعنا إلى تراثنا الشّعبي، لوجدنا عديد الأمثال القبيحة، أو التي يُمكن أن تشي عن سفالة واضحة ـ التي لا نجد حرجًا في استخدامها في الكثير من مواقف حياتنا اليومية. مثلًا نقول: "اللي يمشي ورا العيال ما يخلاش من ..."، و "الدنيا زي الخيارة يوم في إيدك ويوم في ..."، و "زمان موكوس، يرفع الرجول ويخفض الرؤوس"، و "زيّ السموار، غليانة في قلبه وحرقانة في قعره"، و "اجريها عوج، وبدها بابوج"... وغيرها الكثير.. والثّابت أنّ "الأمثال الشعبية" تعكس ثقافة المجتمع التي تنبعث منه، وتعبّر عن موقفٍ ما، يُصادف الفرد، وتساعد تلك الأقوال على نشر روح الفُكاهة والمُساعدة على تخطّي العقبات التي يُقابلها الفرد خلال حياته اليومية.

   ولو انتقلنا من الأمثال إلى الأشخاص نجد، مثلًا، شخصية "الشّرشُوحة"، وهي كلمة عاميّة مصرية تدلّ على امرأة سليطة اللّسان، صوتها عالٍ، ألفاظها وقحة، يتمّ تأجيرها للإساءة اللفظيّة لشخصٍ آخر، كما رأينا في أفلام من قبيل "خالتي فرنسا". وهي قريبة المعني من "الرّدّاحة"، مع فارق وحيد هو أنّ الأخيرة ليست مأجورة، ولكن هدفها أن تفرض سيطرتها ووجودها في المنطقة التي تقطنها، أو تُحقّق انتصارًا على خصمها.

   وفي سياق غير بعيد، نجد "عبيط القرية" ـ تلك الشخصية المُنتشرة في كافة المناطق العربية، تقريبًا، ويُنسب إليها تأدية دور "الفُحْشِ" بامتياز.

   العبيط أنواع؛ كنّا قد وقفنا على تفاصيله في مقال سابقٍ، وهو يسير بحريّة وبلا حدود عارضًا بضاعته للمارة، مُعمِّقًا بذلك روح الكآبة والتأفُّف في الفضاء العام. وبصفةٍ عامة، فلا يراوده حرجٌ من قضاء حاجته أمام الناظرين، بل ويُطلق الغازات والشتائم والألفاظ النابية، ويعبث بأعضائه التناسلية جهارًا نهارًا.

   في مصر، نجد سيدي "علي كاكا" وقد وصفه أحمد أمين بقوله: "هو شخصية غريبة تدلّ على ولوع المصريين بعلاقتهم الجنسيّة، فهي شخصية رجل يلبس الحذاء ويلبس في وسطه حزامًا تتدلّى منه قطعة على شكل الآلة الجنسية في أضخم أنواعها. وكان هذا المنظر يُثير ضحك النساء والرجال، على العموم، ضحكًا بالغًا.

   وفي مدينة القيروان التونسية، كان هناك إلى وقت قريب وليّ يُدعى العورة، وهو لقب لا يخلو من مغزى، يتحلّق حوله الصبية مُهلِّلين يسألونه أن يُريهم ساعته، فيُسارع بكشف ثيابه؛ ممّا يبعث البهجة والمرح في المارة من النساء والرجال!

   إنّ كلّ تلك النماذج هي نماذج شاحبة بالمُقارنة مع "كراكوز" ـ تلك الأخيرة يُعتقد أنّها من أصل تركيّ، وهي دُمية تقوم ببطولة عروض تمثيليّة صغيرة خاصةً في شهر رمضان لتسلية المُشاهدين. وتُترك المواقف والكلمات لاختيار الرجل الذي يُحرِّك الدُّمية. و "كراكوز" في النهاية هو المُنتصر القويّ الذي يهزم العالم برمّته بفضل فحولته التي لا يملك أحد مُقاومتها، بداية من مُلاحظات الحمامات العامة، والغاويات، ورجال الشرطة... إلخ. فكلّ هؤلاء ينهزمون تحت وطأة سُعاره الجنسيّ الذي ينسحب أيضًا على الظواهر الطبيعية من نخل وشجر وزيتون، فلا أحد يصمد أمام عصاه التي يُصاحب ضربتاها عبارات بذيئة وأمثال سوقية. ويضجُّ جمهور الحاضرين، رجالًا ونساءً وأطفالًا، بالضحك والضجيج. ولكن: لماذا نضحك؟

   ذهب الفيلسوف اليوناني سقراط إلى أن "السخرية تنبع من تجاهل الذات"، وأكّد أرسطو على أنّنا نضحك على مَن هم أقلّ منّا وعلى القُبحاء من الأشخاص، والفرح يأتينا من الشعور بأنّنا طبقةً أعلى منهم. وفسّر الألماني هيجل نشأة الضحك قائلًا بأنّه: نتيجة لوجود التناقض بين المفهوم والمعنى الحقيقي الدفين الذي يُقدِّمه هذا المفهوم. وهو يُشير إلى المفهوم بـ "المظهر" الشيء الظاهر لنا، وبالضحك يُنكر وجوده كليّة. وأكّد فرويد أنّ الضحك ظاهرة وظيفتها إطلاق الطاقة النفسية التي تمّ تعبئتها بشكل خاطئ أو بتوقعّات كاذبة. وذهب جون موريال إلى أنّه نوع من أنواع التعبير عند المرور بخطر ما. أمّا بيتر مارتينسون فقال بأنّ الضحك هو الاستجابة للإدراك الذي يُقرّ بأنّ الكينونة الاجتماعية ليست شيئًا حقيقيًّا.. أمّا الفرنسي برغسون فقد ذهب إلى "إنّ ضحكنا هو ضحك جماعة من الناس"، وبالتالي فالضحك يتولّد حين يُوجّه جماعة من الناس انتباههم إلى واحد من بينهم، مُسكتين حساسيتهم ومُمارسين عقلهم وحده. وبالتالي فإنّ ما يُثير ضحكنا هو أن يتحوّل ما هو حيّ إلى ما يُشبه الآلة.

   إنّ هذه الممارسات التعويضية تُقدّم سلسلة فاعلة مُؤثّرة في النُظم الدفاعية للمجتمعات العربية، فعبر إرساء قواعد الفُحش واستمرارية مُمارسته ورتابته، يُمكن إدراك أنّ الفُحش ليس ظاهرةً هامشيّة، بل على النقيض تمامًا، إنّه يضرب بجذوره في أعماق الجماعة، وينعكس أحيانًا بأسلوب مُتطرِّف. كما أنّه، في الحقيقة، لا يعدو سوى النقص في الشخصية الزائفة الهشّة، ومُجرّد ظاهرة لخاصية السطحيّة التي تخفي الذات الحقيقية.



[*] ) أستاذ محاضر الفلسفة والأخلاق التطبيقية، ورئيس اتحاد الفلاسفة العرب ـ مصر

أحدث أقدم