احتفاءً باتّحاد الفلاسفة العرب
د. مراد بن قاسم
شأن القول
بالاحتفاء أُلاّ يُغادر مقام التذكير بمحاسن المُحتفى به، تمجيداً وتبجيلاً؛ والإشادة
بما كان منه جميلا في المظهر، وأصيلاً في الفعل، ومُفيداً في الإضافة ممّا لم
يَعتده المقبلين على المعرفة، عموماً، وعلى الفلسفة، بصفةٍ أخصّ. ولكنّ الغريب
الذي لمْ يُعتَدْ، والانحراف عمّا قُدّرَ لزمنٍ سبيلاً مُستقيماً، هو شأن الفيلسوف
والمُشتغلين بالفلسفة والمهوُوسين بالتفلسف. فيستحيل احتفاء المتفلسف ضرباً من
ضروب النّقد، وتنبيهاً من مخاطر الغلُوِّ في الاستحسان، ومن منزلقات الإفراط في
تعديد المناقب، ومن متاهات رسم التقدير على معيار المقادير غير المُناسبة. فلطالما
كان الفيلسوف مُخالفاً للبداهات ومُعاديّاً.
وحتى لا يستاء
من نُوجّهُ لهم هذه التحيّة وهذا التكريم، من المُشرفين على فضاء اتّحاد الفلاسفة
العرب وأعضائه ومحبيه والمُقبلين عليه، وأنا أحد الحريصين على مثل هذا الإقبال،
ولا ريب؛ فلن أتردّد، ودون مُواربةٍ أو كذبٍ أو مُغالطةٍ، في تأكيدِ أنّ المساحة
الافتراضية، التي فُتحَتْ للقاء العقول وخطاب القول المُباشر عبر الواسطة
الافتراضيّة الرّقميّة، لها من الأهميّة ما لقراءة تاريخ الأفكار من أهميّة، وفيها
من الضرورة ما للاستطلاع الحقائق المُتجدّدة من ضرورةٍ؛ وفضلاً عن ذلك فإنّ الفضاء
الافتراضي لاتّحاد الفلاسفة العرب في مصر، ولمجمع الفلسفي العربي بالعراق، وحَلَقة
منيرفا بالمغرب، (في انتظار تجديد نشاطها قريباً)، تشكّلُ جميعها ثورةً مُتعدّدة
الوُجوه:
أوّلها مواكبةُ التقدّم التكنولوجي والرّقمي في عالَم
التواصل الافتراضي في الحقل المعرفي والفلسفي، على نحوٍ أدقّ، الأمر الذي يُيسّر
تثاقفاً كونيّاً لا تبقى معه الإبداعات الفكريّة حكراً على ثقافةٍ دون أخرى. أمّا
الوجه الثاني لهذه الثورة فيتجسّد في الحرص على تقارُبِ الشعوب العربيّة بالإنصاتِ
إلى مُفكّريها ونقّادها ومُؤوّليها داخل نظامٍ لسانيٍّ مُوحّدٍ، لطالما اُتّهِمَ
بهجرِ الفلسفة والارتدادِ على معقوليتها التاريخيّة، هوَ اللّسان العربي، القادرِ
على مقاومة الصراعات البائسة، والنزاعات الرّغبويّة التافهة بين شعوب البلاد
العربيّة. في حين تتمثّل الصورة الثالثة للثورة في اجتهاد مُشرفي اتّحاد الفلاسفة
العرب على إعادة نشرِ أصالة الفكر النقدي، القاصد إلى التحرّر من كلّ نزوع فكريٍّ
دوغمائيٍّ، الذي ظلّ جاثماً على العقول العربيّة لمساحةٍ زمنيّةٍ غير قصيرةٍ، وما
زلنا نخشى عودة هذه الأرتودوكسيّة الفكريّة من جديد، قدْرَ خشيتنا على تمظهُرها في
لبوسٍ آخرَ لم نعتدهُ.
ومع ذلك كلّه،
نتساءل: ألا يُفضي قولُ الفلسفة، اليوم، عبر الوسائط الافتراضيّة المُعاصرة، من
مثل الفيسبوك والانترنت وغيرها من آليات اللقاء الرّقمي، تهميشاً للفلسفي، وإحالةً
للعقلانيّة النظريّة النقديّة على العَطالَة، وإسقاطا للوقارِ التاريخي للفيلسوف بتذييله
بمن كانوا طيلة دهرٍ دُونَهُ منزلةً ومقاماً؟ !
وفضلاً عمّا قد يحتملُهُ هذا الاستفسارُ من وجاهةٍ، لا يرتفع إلينا الشكّ ممّا تشكوه الفلسفة المُعاصرة من أزمةٍ. فها أنّ بعض العلماء، ممّن تلقوْا تعليماً فلسفيّاً كلاسيكيّاً، يرفضون أن يروْا فيها أصلَ فكرهم العلمي، وآخرون ينظرون، فقط، إلى الفلسفة وتاريخها على أنّها غير ذات جدوى ولم يبقَ إلاّ النظر إليها بامتعاضٍ واستهجانٍ. وما تُعايشُهُ الفلسفةِ المُعاصرة هو انقسامٌ فضيعٌ لافتٌ، مثّلتْ الوضعيّة المنطقيّة والابيستمولوجيا والتيولوجيا صورة حقيقيّة له.[1]
وداخلَ هذا
الانقسام الكبير انفجرَ الفضاء الفلسفي، فعليّاً. وها أنّ الفلاسفة الجيّدون
ينزلقون في ما بين تاريخ الفلسفة والابيستمولوجيا إلى الأدب فصاروا أدباء كبارا،
مثلما هو الحال بالنسبة إلى جان بول سارتر. وإنْ كانت أعمالهم الرّائعة هامشيّة
بالنسبة إلى الفلسفة فإنّ الهندسة المعماريّة الفلسفيّة الموقّرة قد انهارتْ.
انهيارٌ عبّر عنه بوضوحٍ كافٍ نفور الفنانين من موسيقيين ومسرحيين، فهم يعتقدون
أنّ فنّهم يستحقُّ أكثرَ احتراماً؛ ذلك أنّ الفلسفة المُدّعية صارت فاقدة لكلّ
أهميّة، فلا أحد من الفلاسفة يستحقّ لحناً من ألحان
الموسيقيين الكبار أمثال موزار وبتهوفن، الذين لم يكونا من الخصومِ الألدّاء
للفلسفة، ولكنّهما اعتقدا أنّهما الذين تتعرّف فيهما الإنسانيّة على أسمى العباقرة.[2] وهو
عينه اعتقاد موليار في مسرحيته "البورجوازي النبيل"، فرغم سخريته من
معلّم الموسيقى ومن معلّم الرّقص ومن قائد قوّات الحرب، إلاّ أنّه يظهر مع
الفيلسوف أشدّ قسوةً، لأنّه لا يكُفُّ عن الادّعاء أنّه الأعلم بكلّ شيء وما يريد
تعليمه للآخرين هو العلم الذي من دونه تتماثلُ الحياة والموت. وفي نظر علماء
وموسيقيين وشعراء ورسّامين لا أساس يسند ذاك الادّعاء للفلسفة، فهو لا يعدو أن
يكون محض وهمٍ[3].
ولو أخذنا في
الاعتبار هذا الظهور للفلسفة الافتراضيّة، من حيثُ هي فلسفة عمليّةٌ تريد إعادة
الاعتبار إلى أهميّة الممارسة الفلسفيّة في الفضاء العمومي، فسننتبه إلى خطورةٍ
أخرى مضمونها التغييب، القسري أو غير المقصود، لخطاب الصمت في الفلسفة، أيْ غياب
خطاب الفلسفة المكتوبة والنسقيّة وذات المُخطّط المنهجي الصارم والدقيق والرّاغب
في الدّوام والخلود ما بقيَ الإنسان[4].
والحالُ هذه، ليسَ أخطرَ من أنْ يحُلَّ الكلام الملفوظ محلَّ الصمت، الذي كُتبَ
بحبر التاريخ ولأجل التاريخ ولأجل أن يكون موضوع تأريخٍ.
فأيُّ أهميّةٍ،
إذن، لتعبيرات الفيلسوف المُختلفة، على نحوِ ما هو حاصر بيننا اليوم، من مثل هذا
التعبير الافتراضي للفلسفة وفيلسوفها؟ إنّي وإنْ كنتُ ممّن يتبنون ويدافعون عن
الفلسفة النسق فإنّ البلاد العربيّة، وشعوبها التي إليها ينتمونَ، هي في طور
النهوض، ويريد أهلها أن يخطو خطواتٍ ثابتةٍ نحو التقدّم، لا بُدّ لهم من الأوْبَةِ
إلى سقراط يُمارسُ التفلسف في أروقةِ أثينا، تماماً كما نُمارسُ نحن اليوم، النشاط
الفلسفي في فضاءاتنا الافتراضيّة. فلا بُدّ للمُستقبلِ، مستقبلنا نحن، من بدايةٍ،
وهي ذي بدايتنا. ولا بدّ للنّاس، الذين على عقولهم أقفالها، أن يُنصتوا إلى
الفلسفة ولكلام المُتفلسفة، في كلّ حينٍ، مُقاومة للدوغمائيّة وللغباء وللموت
الإرادي.
فطوبى لمن
يتفلسفون لأجل الحضور. وإنّه لمن أضعف الإيمان أن يكون الفعل المقاوم، ذاك، ولو لأجلِ
تسجيل الحضور فقط.. !.
وتهنئةً مخلصة
وخالصة للاتّحاد الفلاسفة العرب وآلِ بيته وأصدقائه، أملاً في تخطّي الكلام إلى
صمت الفلاسفة الجديرون باسم الفيلسوف.
فخالص التهنئة للمشرفين على فضاء الفلسفة
والتفلسف.
[1] Alexis Philonenko, L’archipel de la conscience
européenne, Paris, Grasset, 1990.
[2] Alexis
Philonenko, Qu’est-ce que la philosophie – Kant et Fichte, Paris, Vrin,
1991.
[3] Alexis Philonenko, Qu’est-ce
que la philosophie – Kant et Fichte, Paris, Vrin, 1991.
[4] Alexis Philonenko, L’archipel de la conscience européenne, Paris,
Grasset, 1990.